من المنبع إلى البحر.. فشل ضبط إنتاج البلاستيك يهدد الحق في بيئة وصحة سليمة

من المنبع إلى البحر.. فشل ضبط إنتاج البلاستيك يهدد الحق في بيئة وصحة سليمة
التلوث البلاستيكي

في قرية ساحلية صغيرة، تلتقط أمٌ أكياساً مهترئة من شاطئ أصبح يلفظ يومياً بقايا من زجاجات وعبوات وأغطية. بين أصابعها شظايا بلاستيكية دقيقة تكاد لا تُرى، لكنها تدخل دورة الغذاء والماء والهواء.. مشهدٌ مألوف يتكرر على ضفاف أنهار إفريقيا وآسيا وشواطئ المتوسط والمحيطات، وبينما تتصاعد آثار هذه الجائحة الصامتة على صحة البشر والكائنات والاقتصادات، تتعثر المفاوضات الدولية لصياغة معاهدة ملزمة لوقف النزيف من المنبع إلى المصب.

يأتي ذلك في وقتٍ يطالب فيه العلماء والمنظمات الحقوقية بقرارات جذرية لا تقتصر على تنظيف النفايات، بل تعالج أصل المشكلة وهو الإنتاج المتضخم للبلاستيك، وهذا التعثر السياسي يترجم مباشرة إلى تأجيلٍ للعدالة البيئية والصحية، وقد انتهت جولات التفاوض الأخيرة دون نص نهائي، وسط انقسامات عميقة حول وضع سقوف للإنتاج وتقييد المواد الكيميائية الخطرة في البلاستيك، وفق "فاينانشيال تايمز".

التفاوض في عنق الزجاجة

انطلق المسار التفاوضي بقرار جمعية الأمم المتحدة للبيئة عام 2022 لإعداد صك قانوني ملزم ينهي التلوث البلاستيكي عبر دورة الحياة كاملة، لكن الاجتماع الرابع في أوتاوا عام 2024 فشل في حسم الخلافات حول أكثر القضايا حساسية، وعلى رأسها وضع حدود لإنتاج البلاستيك البِكري ومعالجة قائمة المواد السامة، ترتب على ذلك نص تفاوضي مترهّل ومشحون بالأقواس والخيارات المتعارضة، ونقل الملف إلى جولات إضافية خلال 2025 دون ضمانات اختراق. 

تشير أحدث مراجعات منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية إلى أن إنتاج البلاستيك تضاعف عالمياً من 234 مليون طن عام 2000 إلى 460 مليون طن عام 2019، في حين بلغ توليد النفايات 353 مليون طن في العام نفسه، ولا يُعاد تدوير سوى 9 في المئة فعلياً من النفايات البلاستيكية، فيما يُحرق 19 في المئة ويُدفن نحو نصفها، ويتسرب 22 في المئة إلى البيئات البرية والمائية عبر مكبات عشوائية أو حرق مكشوف.

ويقود الاتجاه الحالي إلى شبه تضاعف للطلب والنفايات بحلول 2060 إذا لم تتغير السياسات. تلك ليست أرقاماً تقنية فحسب، إنها خريطة طريق لما سيؤول إليه الهواء الذي نتنفسه والماء الذي نشربه والطعام الذي نأكله. 

لماذا لا ينقذنا إعادة التدوير

إعادة التدوير مهمة لكنها وحدها لا تلحق بالوتيرة المتصاعدة للإنتاج والاستهلاك، ويوضح تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة "إغلاق الصنبور" أن مجموعة متكاملة من التدابير يمكنها خفض التلوث البلاستيكي بنحو 80 في المئة بحلول 2040 إذا جرى التحول إلى نماذج إعادة الاستخدام، وتصميم المنتجات لإعادة التدوير. 

المشكلة ليست بيئية فقط؛ إنها أزمة صحة عامة حيث رُصدت جزيئات ميكروية بلاستيكية في عينات بشرية، منها دراسات وجدت آثاراً في الدم والأنسجة، ما يزيد القلق من مسارات التعرض والتأثيرات المحتملة على الالتهاب والجهاز المناعي والإنجابي.

وتدعو منظمة الصحة العالمية إلى سد فجوات المعرفة وتسريع الوقاية والاحتراز، وبحسب المفوضية السامية لحقوق الإنسان فإن الحذر العلمي لا يعني الانتظار، فمبدأ الوقاية يفرض تقليل التعرض من المنبع عبر سياسات صارمة للمواد المضافة وخفض المنتجات غير الضرورية. 

حقوق الإنسان والالتزامات القانونية

اعترفت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2022 بالحق في بيئة نظيفة وصحية ومستدامة، ما يضيف سنداً حقوقياً للمطالبة بمعاهدة قوية تُعلي حماية الصحة والبيئة على أرباح قصيرة الأجل، إلى جانب ذلك، يوفر القانون البيئي الدولي أدوات جزئية، فملحق اتفاقية ماربول يحظر التخلص من البلاستيك في البحر.

فيما حدّثت اتفاقية بازل 2019 نظام الرقابة على تجارة نفايات البلاستيك العابرة للحدود، لتجعلها أكثر شفافية وتقييداً، لكن تبقى أدوات “نهاية الأنبوب” لا تنظم الإنتاج العالمي ولا تركيبة المواد الكيميائية عبر سلسلة القيمة، وهو ما ينبغي أن يتولاه نص المعاهدة المرتقبة.

من يتحكم في مسار النص

في قلب الخلاف تقف مصالح اقتصادات معتمدة على النفط والبتروكيماويات تطلب التركيز على إدارة النفايات وإعادة التدوير و”التدوير الكيميائي”، وترفض سقوفاً للإنتاج، في مقابل تكتلات واسعة من الدول المتقدمة ودول جزرية ومنظمات أممية وحقوقية تدفع نحو خفضٍ مُجدول للإنتاج وتنظيم صارم للمواد السامة ومسؤوليات ممتدة للمنتِج وتمويل انتقالي عادل.

وقد وثقت تقارير صحفية وتحليلات حقوقية حضوراً كثيفاً للوبيّ الصناعة في الجولات الأخيرة، ما يعكس حجم الرهانات الاقتصادية على إبقاء الصنبور مفتوحاً. 

ما الذي تقوله المنظمات

تدفع منظمات بيئية دولية مثل الصندوق العالمي للطبيعة وغرينبيس وشبكات قانونية كالمركز الدولي للقانون البيئي باتجاه نص قوي يضع سقوفاً ملزمة للإنتاج، ويعالج المواد الكيميائية الخطرة، ويقر آليات تمويل ونقل تكنولوجيا للدول منخفضة الدخل، تحذّر هذه المنظمات من أن تحويل المعاهدة إلى أجندة “نظافة” بلا ضوابط على المنبع سيعني تكرار فشل ملفات بيئية سابقة.

وفي المقابل، تروّج اتحادات الصناعة الكيميائية لنهج يركز على البنية التحتية للنفايات والتدوير المتقدم، معتبرة أن البلاستيك مكوّن أساسي لاقتصادات حديثة وأن ضبط النفايات يكفي إذا ما حُشدت الاستثمارات، وجوهر الخلاف إذن ليس في الاعتراف بالأزمة، بل في مكان التدخل وشدته. 

عدالة بيئية غائبة

يدفع الجنوب العالمي الكلفة الأعلى رغم مساهمته التاريخية الأقل، ويحدث التسرب الأكبر للنفايات غالباً حيث تضعف البنية التحتية وتنهار أنظمة الجمع، ويعتمد ملايين من جامعي النفايات غير الرسميين على اقتصاد الظل لتأمين قوتهم في ظروف صحية واجتماعية هشة، و المعاهدة المنشودة يجب أن تعترف بدورهم وتضمن حماية عملهم وإدماجهم، وتمويل تحسين إدارة النفايات محلياً.

البلاستيك ليس مجرد قمامة على الشاطئ، إنه أيضاً كربون محبوس سيعود إلى الغلاف الجوي أثناء الإنتاج والحرق والتسرب، وتؤكد وكالة الطاقة الدولية أن البتروكيماويات، وفي قلبها البلاستيك، ستقود نسبة متزايدة من الطلب على النفط في العقود المقبلة ما لم تتغير السياسات جذرياً، ما يجعل المعاهدة فرصة مناخية بامتياز فكل طن بلاستيك غير مُنتج يخفّض انبعاثات مستقبلية ويقلل من الضغط على منظومات إدارة النفايات. 

يُعدّ التلوث البلاستيكي اليوم من أبرز التحديات البيئية والصحية التي تواجه العالم، مع إنتاج سنوي يتجاوز 400 مليون طن من البلاستيك، لا يُعاد تدوير سوى جزء ضئيل منه، وتُنقل كميات هائلة من هذه النفايات إلى المحيطات والأنهار، ما يؤدي إلى تلوث واسع للمياه والتربة والغذاء.

وكشفت دراسات حديثة عن وجود جزيئات بلاستيكية دقيقة في هواء المدن، وفي مياه الشرب، بل وحتى في دم الإنسان، ما يرفع من المخاوف الصحية المرتبطة بالتعرض المستمر لها، ولا سيما بين الأطفال والفئات الهشة.

وأمام هذه الكارثة الصامتة، تسعى الأمم المتحدة إلى إقرار معاهدة دولية شاملة تُنظّم دورة حياة البلاستيك، من التصنيع إلى الاستخدام والتخلص، على أمل التوصل إلى اتفاق ملزم بحلول نهاية عام 2025.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية